منذ سنوات تتقلب في نفسي فكرة إنشاء مدوّنة تجمع ما تفرق مما أكتبه لنفسي أولاً، وما أحب أن أشاركه غيري، إلا أن الخوف من النقد حال بيني وبين ذلك، فلا أباركُ الأفكارَ والآمالَ في مشروع الكتابة، إلا وشبح الخوف ماثل بين عينيّ، ليفرِّق ما عزمت عليه، وما أردت المضي فيه، والخوفُ من النقد هادمُ المشاريع.
ولأن الفكر ابن الملاحظة؛ كان من أكثر ما ألاحظه فيما حولي من كتب مطبوعة، وكتابات منشورة، أو خواطر أو مشاركات مُشاهَدةٍ أو مسموعة مسألة: “ألا يخاف هؤلاء من النقد؟”.
ومضت الأيام، ولا تبتدئ سنةٌ إلا وتعاودني فكرة التدوين، ويشتدَّ ساقها، إلى أن يقتلع أصلها الخوفُ من الناس.
ثم ماذا؟
وكان النقد والرد والأخذ، فماذا كان بعد ذلك؟ أليس الناس يردُّون على بعضهم بالحق والباطل، والصحيح والسقيم، وما من فكرة إلا ورادٍّ عليها، و:
(ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن … طلب العزلة في رأس جبل) فعَلامَ الخوف؟
ورأيت حقاً أن أكثر ما يهدد الطموحات، ويسقط التقدمات هو الخوف من الفشل، والخوف من النقد ومن الخطأ، ولكن؛ أَكُلُّ ذلك مانع من البدء ومن قدح الزند، مراعاةً لصون النفس عن قوادح الخطأ، وخواطر الأفكار؟
وهاجت الأفكار في نفسي كثيراً، فتزيد وتنمو هذه الفكرة مع الأيام، فلا تزيدها إلا مناظرات في نفسي، بين الاقدام والاحجام، ودلائل العزيمة، وحواجز التردد، وأراء القريبين والأبعدين، ولكلِّ رأيٍ حجّته ومكانته.
أليس هذا القرآن المبين، والبرهان الحق، إلا أن من المشركين من تجرأ بالرد على رب العالمين؟ وليس كلامي قرآناً، ولا سُطوره أحاديث إمام الهدى فتعصم من الخطأ والزلل، وتصان من التحريف والتبديل.
ولئن تغيّرت المفاهيمُ الطالبةُ للحقيقة – فضلاً عن المجانبة لها – في تفسير آياتٍ أشكلت، ونصوص وردت، فَلَأَن يؤخذ كلامي بالنقد والرد، والتأويل الصحيح والفاسد أولى بمفازات ومراحل، فَلِمَ الاحجام؟
ونظرت فلم أجد أحداً ذا شأن من أهل العلم إلى من دونهم إلا وله وعليه، ولكن الانتصار على طبيعة النفس المتحفّظة، والغَالِيَةِ في صون حِجاب إلفها عمّا ينازعها إيّاه من خوف نقد الآخرين؛ كان هو سبب التقدم والظهور، والناس بين منتجٍ ومستهلك، متقدمٍ ومتأخر، وناقدٍ هادمٍ وآخرَ بانٍ، وأشدُ أعداء النفسِ ذاتُها في خوفها وترددها.
ولاتزال الأيام تتقلّب بي بين صراعات هذا التردد، إلى أن قرأتُ نصاً لكاتب من كبار الكتاب في زمنه – وما بعد زمنه – كان قد أصدر ديواناً له، فلم يقبِل الناسُ عليه، ورأوه ناثراً أكثر من كونه شاعراً، فاتخذ اسماً مستعاراً، وكتب المقالات في جماليّات شعر ذاك الشاعر الصاعد – يعني نفسه – وأنه متنبي زمانه، بل ولو كان المتنبي بين الأحياء لكان أشعر منه! فما أبعد ما بيني وبينه!، وقلتُ: لعله ممن عُرفَ بشيء فاكتفى الناس بما عرفوه عنه، وخبا عندهم إبداعه في شعره للفكرة المألوفة عنه ناثراً لا شاعراً، وها هو ديوانه بين يديّ أطالعه، فلا أجد في ديوانه ولا عُشير ما قاله عن ديوانه وشعره، ولم يتركه الناس إلا لأن ميدانه في النثر أقوى من شاعريته في النظم، ولكنَّه “الاقدامُ بالنفس” وإن كان مُغالِياً، والنظر إليها بشيء من الفخر لبناء الثقة، وبين هذا الاقدامِ والخوف من النقد ثمّت التوَسُّطُ المحمود.
نُقِشت في نفسي كلمة الزيات في مقدمة العدد الأول من مجلته الرسالة، حين حكى ما مرّ به من مشاورات وأفكار بين إنشاء المجلّة والخوف من الاقدام عليها، وصراعاته مع المؤيدين والمعارضين… إلى أن قال: “وأخيراً تغلّب العزم المصمم على التردد الخوّار، وخرجت الرسالة”.
وأنا لا أكتب وأنشر للناس أولاً، إنما هي كتابات لي، وأحب أن أشاركها غيري.
وكأن الكاتب الكبير أحمد أمين يتكلّم عما يختلج في صدري حين جمع مقالاته، فقال في سبب جمعها ونشرها: “… لا لأنها بدائع أو روائع، ولا لأنها ستفتح في الأدب فتحاً جديداً لا عهد للناس به؛ ولكن لأنها قطعٌ من نفسي، أحرص عليها حرصي على الحياة، واجتهد في تسجيلها إجابةً لغريزة حب البقاء… ثم لعلي أقع على قراءٍ مزاجهم من طبيعة مزاجي، وعقليتهم من جنس عقلي، وفنّهم من فني، يجدون فيها صورةً من نفوسهم، وضرباً من ضروب تفكيرهم، فيشعرون بشيء من الفائدة في قراءتها، واللذة في مطالعتها، فيزيدني ذلك غبطةً ويملؤني سروراً” وبكل ما قال أجدُني كذلك، فالمشاركةُ استجابةٌ فاعلةٌ لغريزة حب البقاء، وإظهارُ أثر النفس في الناس، وحرصٌ على الحياة، ورغبة في تخليد الذكر، والقراءُ كُثُر، فمنهم من يشبهني، ومنهم من بيني وبينه كما بين الليل والنهار، ولعلي أجد من يشبهني ويجدوني.
فالآن أقول ببالٍ منشرح: “وأخيراً تغلّب العزم المصمم على التردد الخوار، وخرجت المدوّنة”.
ما شاء الله تبارك الله، بداية موفقة وبانتظار المزيد، زادك الله من فضله
اكتب ولا عليك من أحد
كانت النية أقرأ بداية المقال فقط واندمجت في القراءة حتى النهاية لجمال الأسلوب والنص الأدبي ماشاءالله .
إلى الأمام بارك الله فيك 👍🏻
ما شاء الله، بداية موفقة أخي يزيد، استمر في نشر إبداعاتك، زادك الله من فضله.
أخوك / مصعب النعيم – الأحساء – إمام وخطيب ومحام
قناتي بالتلجرام :
https://t.me/musabalnaim888
سددكم الله ،، وطوبى لحبر قلمكم، وأنامل يمناكم أن دُوّنت هذه الكلمات، ومامن احد إلا له وعليه إلا صاحب هذا القبر .
ماشاء الله تبارك الله أبا عبدالملك.
دائما متميز ومبدع . جمال الأسلوب وسهولة العبارة وروعة التصوير .
نفع الله بكم وزادكم علما وحفظكم أينما كنتم 🌹♥️🌹