ابن زيدون الأندلسي شاعر الرقة والفصاحة
ابن زيدون الأندلسي، شاعر الرّقة والفصاحة
(394هـ – 463هـ)
الجمال يحث على الجمال، وتنبعث في نفس المرء معانيَ وأشجان بتمعّنه في لوحة جميلة منمّقة، أو مخطوطة فاخرة حاكتها يد فنانٍ بالخط وقواعده، فكيف بمن يعيش في الجمال ذاته، فيتنشّقه في صباحه ومسائه، ويتقلّب في أرجائه رائحاً وغادياً، تاريخٌ بين جنبيه وأمام جبينه، يزيده جمالاً ورقّةً وعذوبه.
ذاك شاعرنا أبو الوليد، أحمد بن عبدالله بن غالب ابن زيدون المخزومي الاندلسي، ولد بقرطبة الجمال والعلم سنة 364ه، ونشأة في بيت من بيوت العلم، فوالده فقيه عالم بمذهبه، واسع الرواية والمعرفة، حسن الخُلق، إلا أن يد المنون خطفته شاباً، وليس له إلا ابنه أحمد، فتحوّل شاعرنا إلى حرز جدّه لأمه الفقيه أبو بكر محمد بن محمد بن إبراهيم، فعاش مكرّماً بين أمّه وجده، وفي بيت ينتمي للعز في الجاهلية والإسلام، متوشّحاً العلمَ والأدب، وحسن السيرة في الناس، فكان مصبوغاً بالجمال من كل جهاته، في نسبه، وعلمه، ونفسه وحياته.
أخذ اللغة بزمامها، فكان ناثراً أديباً، وشاعراً مجيداً، قال ابن بسام صاحب الذخيرة: ” كان أبو الوليد صاحب منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً؛ إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، وللنجوم الزهر اقترانه. وحظٍ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني…”.
ثم قال مشيداً بجودة قريحته، وتملّكه زمام أدبه ولغته: ” أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء إشبيلية قال: لَعَهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حرمه، والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سُمِع يجيب رجلاً منهم بما أجاب به آخر، لحضور جنانه، وسعة ميدانه”.
تعلّق قلبه حبّ ولّادة بنت المستكفي، على كثّرة عذاله في حبّها، ,خاطبي ودّها، إلا أن قلبها قد مال إليه، فكانت ملئ فؤاده، وكان ملئ عينيها… إلى أن حوّلت الأيام الحبَّ إلى عداء، والقرب إلى بعد، فما أعجب حال أهل الحب كيف تتقلّب بهم رياح الزمن على غير مايشتهون!
له من رقيق الشعر نونيّةٌ ماترنّم بها محزونٌ إلا سُرِّي عنه، ولها مع الليل وقع خاص، لا يعيش معها إلا صادق الشعور، متّقد الإحساس، دافئ الأنفاس:
كُنّا نَرى اليَأسَ تُسلينا عَوارِضُهُ … وَقَد يَئِسنا فَما لِليَأسِ يُغرينا
بِنتُم وَبِنّا فَما اِبتَلَّت جَوانِحُنا … شَوقاً إِلَيكُم وَلا جَفَّت مَآقينا
نَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائِرُنا … يَقضي عَلَينا الأَسى لَولا تَأَسّينا
حالَت لِفَقدِكُمُ أَيّامُنا فَغَدَت … سوداً وَكانَت بِكُم بيضاً لَيالينا
…
لا تَحسَبوا نَأيَكُم عَنّا يُغَيِّرُنا … أَن طالَما غَيَّرَ النَأيُ المُحِبّينا
وَاللَهِ ما طَلَبَت أَهواؤُنا بَدَلاً … مِنكُم وَلا اِنصَرَفَت عَنكُم أَمانينا
أفي رقته شكٌ بعد هذا التوجّع لفقد حبيبةٍ ملأ القلب سكناها، فالليالي بيض بقربها، والنجوى تحيي الهوى في ضميره فيكاد يصرعه حرّ الشوق، وحرارة الفراق.
ثم انظر حسن رعاية العهد مع حسن الوفاء، فما غيّرت محنة الفراق خليقة شاعرنا بالبعد عن حبيبته، وتعذّر وصلها، فوالله ما طلب قلبه بديلاً عنها في دنيا الناس والناس كثيرٌ، ولا انصرفت أمانيه عن محبوبته لبتّها حبل الوصال، فأين مثل هذا الوفاء من المحبيّن؟
ما أطول الليل على من لم ينم، ومن يقلّب جنبيه في انتظار لقاء أو أمل لقاء، فحرارة الروح المتلهّفة للقاء محبوب لا تشببها حرارة، وما أشدّ ليالي الانتظار، وطول ليالي الفقد، وسرعة ليل اللقاء!
ودّع الصبرَ محبٌ ودّعك … ذائعٌ من سرّه ما استودعك
يقرع السنَّ على أن لم يكن … زاد في تلك الخُطَا إذ شيَّعك
يا أخا البدر سناءً وسناً … حفظ الله زماناً أطلعك
إن يَطُل بعدك ليلي فلكم … بتُّ أشكو قِصر الليل معك
أي وَجدٍ بقلبك أبا الوليد، وأي وفاء لهذا الحب، أتتحسّر حتى على عدد خطواتك أن لم تزدها طولاً في وداع حبيبتك؟ فتقرع السنّ لذلك، وتمنّي أن لو عادت ليالي الوصل لتزيد في تنعّمك بها مع الحبيب المدلِّ.
لا لوم ولا عتاب، فلا يشعر بالعاشق إلا من بُلي بالعشق.
لا تعذل المشتاق في أشواقه … حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيلَ مضرّجاً بدموعه … مثل القتيل مضرّجاً بدمائه
فهما شهيدان في مذهب أبي الطيب، هذا شهيد الشوق بدموعه نحبه قضى، وذاك شهيد المعركة قد مضى.
شَخصٌ يُذكرني فاهُ وَغُرتَهُ … شَمسُ النَهارِ وَأنفاسُ الرَياحينِ
لَئِن عَطِشتُ إِلى ذاكَ الرُضابِ لَكَم … قَد باتَ مِنهُ يُسَقّيني فَيُرويني
لك الله يا أبا الوليد، فما في الصباح من شروقٍ إلا ويثير أشجانك، ويوقد من الشوق نيرانك، وأنت على عهدك ووعدك لم تزل مفدّياً لحبيبك على بعده وجفائه، وتهجو الدهر بسعيه بين حبيبين، وهذه عوائده، أفكان يوماً للهوى بصادق العهد؟
وَاللَهِ ما فارَقوني بِاِختِيارِهِم … وَإِنَّما الدَهرُ بِالمَكروهِ يَرميني
وَما تَبَدَّلتُ حُبّاًّ غَيرَ حُبِّهِم … إِذنْ تَبَدَّلتُ دينَ الكُفرِ مِن ديني
أَفدي الحَبيبَ الَّذي لَو كانَ مُقتَدِراً … لَكانَ بِالنَفسِ وَالأَهلينَ يَفديني
يا رَبِّ قَرِّب عَلى خَيرٍ تَلاقينا … بِالطالِعِ السَعدِ وَالطَيرِ المَيامينِ
أحسن الله عزاءك، وأسكن جراح قلبك، وإن للعاشقين الصابرين مقامٌ عند مُجزي الصابرين أجرهم بغير حساب.
وقد صدقتَ إذ قلت:
واغتم صَفوَ الليالي … إنما العيش اختلاس
فمن الذي جاد الزمان عليه بالمسرّات، فهو يتقلّب في كنف الليالي بالوصل واللقاء، وحسن التعاهد وطيب السهر مع محبوبه؟ إنما العيش فرصة واختلاس.
السلام عليك، وعلى كل عاشقٍ صادقٍ وفيِّ.
21/ صفر/1445ه