العضل وآثاره في الفقه والنظام.
رتبت الشريعة أحكام الولاية على المرأة في عقد النكاح صيانةً لها عن مباشرتها لعقد النكاح تكريماً لها بتمثيلها من قِبل وليها في العقد لإظهار قيمتها فهي “كريمةُ فلان”، فالأليق بالمرأة ومحاسن الخلق في العادات استحياؤها عن مباشرة العقد، وضد ذلك يشعر بتشوُّفها للرجال، وهو صونٌ للمرأة من تسليمها لمن لا يعرف قدرها، أو يفرّط في واجباته نوحها، وشفقةُ الولي تحمله على تلمّس مصلحة المولية في الزواج وتحقيق أرجح المصالح على غيرها، وإلى هذا أشار ابن عاشور رحمه الله حين قال: “ليظهر أن المرأة لم تتولَّ الركون إلى الرجل وحدها دون علم ذويها… ولأن تولّي الوليّ عقد مولاته يهيئه إلى أن يكون عوناً على حراسة حالها وحصانتها، وأن تكون عشيرتُه وأنصارُه وغاشيتُه وجيرتُه عوناً له في الذبّ عن ذلك“[1]، ولتحقق الشفقة في الولي اشترطوا فيه الرشد، وقالوا: إن رشد كل شيء بحسبه، والرشد في الولاية على العقد العقد أن يعرف مصالح النكاح، والأكفاء من الرجال.
ولما كان الأمر كذلك لم تكن هذه السلطة مطلقة للولي فيزوّج موليته بمن شاء ولو كانت كارهة له، أو غير كفءٍ لها، فإن زوّجها من تكره فهي بخير الأمرين، وقد روى أبو داود عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تبيين لمقصد الشريعة من تعيين الولي للمرأة، وهو تكريمها وتحقيق مصلحتها، وصونها عن مباشرة العقد بما يرجع عليها بالكلام فيها، فإن تعدى الولي مقصد الشارع في ذلك فتصرّف بنقيض ما قصد من هذه الولاية فالخيار للمرأة في الامضاء أو الرد.
وأما منع المرأة من الزواج بالكفء الذي رضيت به دون علّةٍ موجبة للمنع فهو مسقطٌ لولاية الولي على المرأة، إذ لا تأتِ الشريعة بالضرر، ولا بحق التعسّف في استعمال السلطة، فالضرر يزال، ومن خالف مقصود الشارع وحكمَه بطل فعله وسقط.
ولما كان العضل معصية شرعية، وجريمة اجتماعية، ترتب عليها الاثم في الآخرة لمنع المرأة من حقها في الزواج من الكفء المرضيِّ به، ولمجاوزة الحد في للبغي باسم السلطة الشرعية.
وقد عالجت الشريعة الغراء حكم العضل بإبطاله وإسقاطه، ونقل الولاية للغير أو للسلطان صوناً لحق المرأة في الزواج من الكفء الذي رضيت به.
ولأجل ذلك كله نجد الفقهاء رحمهم الله تناولوا مسألة العضل وأثره ضمن مسألة الولي في النكاح، وجعلوا من صور العضل منع المرأة التزوج بكفئها إذا طلبت ذلك ورغب كل منهما في صاحبه، سواء طلبت ذلك بمهر مثلها أو دونه، وإن اختارت كفؤا واختار الولي غيره فيقدّم من اختارته، وإلا فهو عاضل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي.
فانظر كيف اعتبر الضرر الواقع على المرأة بسبب شدة الولي بما حال بين الخطاب وبين التقدم لخطبتها، فكيف بمن منعها صراحة.
والعضل مفسّقٌ للولي لمخالفة الحكم الشرعي، ومسقط لولايته على المرأة، وتنتقل الولاية لغيره من الأولياء الأبعدين لرفع الضرر عنها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وليس للولي عضلها عن الكفء إذا طلبته، فإن عضلها وامتنع من تزويجها، زوجها الولي الآخر الأبعد، أو الحاكم بغير إذنه باتفاق“[2].
وهل تنتقل الولاية للولي الأبعد أم تنتقل إلى الحاكم مباشرة؟ في المسألة قولان:
فالمذهب قرر انتقال الولاية إلى الأبعد ممن يلي الأقرب دون حكم حاكم، ولا تنتقل الولاية إلى الحاكم إلا إن عضل الأولياء، وهذا المنصوص عن الإمام أحمد، واختيار ابن قدامة في المغني، قال رحمه الله: ” ولنا، أنه تعذر التزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد،… فإن عضل الأولياء كلهم زوج الحاكم”[3]، وقد اعتمدوا في ذلك على ظاهر الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :” فإن اشتجروا، فالسلطان ولى من لا ولى له” قال ابن قدامة رحمه الله: ” والحديث حجة لنا؛ لقوله: “السلطان ولى من لا ولى له”. وهذه لها ولى. ويمكن حمله على ما إذا عضل الكل؛ لأن قوله: “فإن اشتجروا”. ضمير جمع يتناول الكل.”[4]
وهذا هو المذهب عند المتأخرين، قال البهوتي : “(فإن عضل) الولي (الأقرب) بأن منعها كفءاً رضيته، ورغب بما صح مهراً،… (زوّج الحرةَ الوليُّ (الأبعد) لأن الأقرب هنا كالمعدوم“[5]،
والقول الثاني: أن الولاية تنتقل إلى الحاكم مباشرةً، فيلي هو عقد الزواج، أو يعيّن بالنيابة عنه من يقوم به، وهو مرويٌ عن عثمان وعلي وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم، ورواية عن الإمام أحمد، وقال به الشافعي.
وقد اختار المنظّم نقل الولاية مباشرةً إلى المحكمة لتتولى التزويج، أو لتنقل الولاية إلى وليٍ آخر حال المصلحة، أو تفويض من تراه من المرخصين بإجراء العقد، فجاء في نظام الأحوال الشخصية في تعريف العضل وأثره ولمن تنتقل الولاية في المادة العشرين ما نصّه: “إذا منع الولي -ولو كان الأب- موليته من الزواج بكفئها الذي رضيت به؛ تتولى المحكمة تزويج المرأة المعضولة بطلب منها أو من ذي مصلحة، وللمحكمة نقل ولايتها لأي من الأولياء لمصلحة تراها، أو تفويض أحد المرخصين -وفق الأحكام النظامية- بإجراء العقد.“
وهذا الاختيار مبنيٌ على قول بعض أهل العلم، وهو وإعمال للسياسة الشرعية بين الناس وضبط التراتيب الإدارية حتى لا تطول الخصومة، ويزيد الشقاق بين الأولياء لدفع العضل وإزالته.
وبهذا يتبيّن أن العاضل يسقط حقه في ولاية النكاح، ويكون الحق بذلك للمحكمة استقلالاً، ولها أن تنقل الولاية لأيٍ من الأولياء لمصلحة تراها المحكمة في ذلك، أو تفويض ولاية العقد لأيٍ من المرخصين وفق النظام.
[1] مقاصد الشريعة الإسلامية 3/427.
[2] مختصر الفتاوى المصرية (ص 423).
[3] المغني 9/383.
[4] المرجع السابق.
[5] الروض المربع شرح زاد المستقنع 516.