معالي الشيخ عبدالله التركي ولمحاتٌ من بركات

0

شيخٌ يجلله الوقار، وتعلوه السكينة، لا تكاد البسمة تفارق محياه، والبشر يسبح في وجهه فيصيبك من شعاع نفسه ما يغشّيك بالسرور وطيب البال، فابن الثمانين مازال متقد الهمّة، قوي العزيمة قائماً بخدمة دينه ووطنه ومحبيه، مشرعاً بابه لرواده.

ذلكم معالي الشيخ الوقور د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، الأصولي المحقق، والعالم المدقق، فجهود الشيخ في العلم والدعوة ونشر التراث قلّ أن يكون لها مثيل، وحياة في الإدارة عزّ نظيرها في اجتماع الأثر والتأثير.

عرفتُ الشيخ مذ كنت طفلاً صغيراً أتصفّح الجرائد لأتدرّب على القراءة تحت اشراف والدتي الكريمة، صور الشيخ في صفحاتها مدوّن تحتها بنود عريضة في منجزات الشيخ وأعماله، ومازلت أسمع باسمه مراراً في مجالس أقاربي من طلاب العلم ومحبيه، فالشيخ حديث مجالس طلاب العلم بإنجازاته وأعماله، وقدوةٌ يحتذى بها في ميدان القيادة والعلم.

سارت الأيام، وبدأ الاهتمام بالعلم يزيد ويكبر، فعلمتُ أن هذا الشيخ المبارك ذو فضل على المكتبة الحنبلية خاصّة، وعلى المكتبة الإسلامية عامّةً، فمؤلفات الشيخ وتحقيقاته في المذهب الحنبلي ينوء بحملها ذوو العصبة أولي القوّة، فكيف بإنتاجها والقيام عليها تحقيقاً وتصحيحا؟

كان أول اتصال لي بتراث الشيخ حفظه الله حين بدأت أبحث في أصول المذهب الحنبلي، فلا يرشدني مشايخي وذووا الشأن الأصولي أولاً إلا إلى كتاب الشيخ التركي “أصول مذهب الإمام أحمد” فقد أتى في هذا الكتاب النفيس بما أغنى من بعده عن الكتابة فيه، ثم يممت الفقه وبدأت أتتبع كتب الأصحاب فيه، فعادت لي الوصايا مرّة أخرى باقتناء تحقيقات الشيخ لكتب المذهب، فقد خدمها خدمة جليَّة، أصولاً وفروعاً، تحقيقاً وتعليقاً، متناً وشرحاً قلّ أن يكون ذلك لأحد فيما أعلم.

وأمامك من كتب الأصول للحنابلة الواضح لابن عقيل، ومختصر الروضة وشرحه للطوفي، ومدخل ابن بدران وغيرها، كلها من تحقيقات الشيخ المباركة.

فإن أردت مدار الحنابلة المتأخرين في اختيار المذهب فليس أمامك إلا أن تقرأ “الإقناع“للحجاوي و”منتهى الإرادات“للفتوحي وكلاهما بتحقيق الشيخ الجليل، ومن استغلقت عليه عبارة، أو سمى مزيد بيان لشرح مسألةٍ فدونه “شرح منتهى الإرادات” للبهوتي ومحققه الشيخ الجليل ذاته.

 ثم لا يقنع طالب العلم الحنبلي إلا بمراجعة “المقنع والكافي“لابن قدامة، و”الإنصاف” للمرداوي، و”الفروع” لابن مفلح، ولا تجد أحسن من تحقيق الشيخ التركي لكل هذه مجتمعة.

واصعد في كتب الفقه إلى أن تبلغ فيها منتهاها، فتمسك بـ “المغني” مفخرة الفقه الإسلامي لأبي محمد ابن قدامة رحمه الله، فلا تجد أوفى من تحقيق الشيخ له! وبين هذه المتون، ومفخرة الفقه الإسلامي كتبٌ حنبلية يطول سردها كلّها من أعمال الشيخ في التحقيق وخدمة التراث الحنبلي.

أرأيت مثل هذه المساعي العلمية في الزمن الحديث لخدمة تراث الحنابلة بالتحقيق والإخراج لطلاب العلم؟ ما أظن إلا أن العجز سيدركك إن رمت ذلك.

ثم انطلق في رحاب المكتبة الإسلامية، ويمّم تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري رحمه الله الموسوم بـ “جامع البيان عن تأويل آي القرآن“، فقد أخرجه الشيخ في ستٍ وعشرين مجلداً، و”الجامع لأحكام القرآن” لزينة عصره وقُطره أبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في قريب من ذلك، و”الدر المنثور في التفسير بالمأثور” للحافظ السيوطي، و”البداية والنهاية” لابن كثير في واحد وعشرين مجلداً.

أما خدمة السنّة النبوية فلم يرضِ الشيخ إلا خدمة مطولاتها، فأفرغ الجهد في “مسند الإمام أحمد” فأخرجه في نيّفٍ وأربعين مجلداً، و”المحرر في الحديث” لابن عبدالهادي الحنبلي خدمةً للأصحاب أيضاً، ثم شدَّ الشيخ الهمّة نحو كتب شروح الحديث، فأخرج “موسوعة شروح الموطأ” ضمّ فيها “التمهيد والاستذكار” لابن عبدالبر، و”القبس” لابن العربي رحمهما الله، فاعجب من همّة قلّ نظيرها في عصرنا الحديث.

قل مثل هذه الخدمة في كتب العقيدة، فقد أخرج الشيخ بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرناؤوط تحقيقه لـ “شرح العقيدة الطحاوية” لابن أبي العز الحنفي التي مازال الطلاب يدرسونها في الكليات الشرعية، وكتب كثيرة يطول ذكرها، هي أساسٌ في المكتبة الإسلامية عمل الشيخ على إبرازها وطباعتها خدمةً للعلم وأهله، لا تدلُّ إلا على همّة جاوزت الجوزاء، وجعلت لها مع النجوم مكان.

ومعلومٌ أن خلف الشيخ فريقٌ من الباحثين والمساعدين، ممن كان لهم اسهامٌ في رؤية هذه الأعمال للنور، إلا أن قيام الشيخ بنفسه على هذه الأعمال الجليلة، إشرافاً وتدقيقاً واعتماداً كان هو الأساس الأول والأخير لتميّز هذه الأعمال عن غيرها، وقد لقيت من أخبرني عن حرص الشيخ على إتمامه العمل تحت نظره فقال:” كان الشيخ دقيق النظر فيما يحقق من أعمال، وكان يقوّم أعمال مساعديه بقراءتها حرفاً حرفاً، ومقابلة مسوداتها بمخطوطاتها، وكنت ممن يقرأ عليه في سفره وحضره، وصحبته ثلاثة عقود ما رأيت أشد جلداً منه، وحرصاً على الوقت والنفع والفائدة”.

ثم إن الناظر في سيرة الشيخ العملية حفظه الله يجد أن الشيخ محل ثقةٍ من ولاة الأمر، فترقى بين الرتب، وتنقّل بين المناصب، فكان حظّ جامعة الإمام به كبيراً إذ خطّ لها موقعها المتميز في مقدّمة الرياض الآن، وقد كانت وقتئذٍ تكاد تكون في خارجه، فلامه من ظنَّ أن العمران لا يصل إليها، وراجعوه في تغيير موقعها، وتصغير مساحاتها، إلا أن بُعد نظر الشيخ كان في محلّه، إذ صارت واجهة الرياض للقادم إليها من مطار الملك خالد، ومفخرة المملكة العربية السعودية في تأسيس العلم الشرعي وبثّه في شرق الأرض وغربها.

زرت مجلس الشيخ فأكرمنا بحسن استقباله، وأنسنا بالحديث معه، وخرجت من عنده وقد بان لي مكانة الجامعة في قلبه، فعلى أن الشيخ قد تقلّد وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وأشرف على مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ثم صار أميناً لرابطة العالم الإسلامي، فمستشاراً في الديوان الملكي، وعضواً في هيئة كبار العلماء، وقد قدّم في كل ما وليه من أعمالٍ منجزات جليلة القدر، إلا أن حبَّ الشيخ للجامعة بادٍ عليه من حديثه عنها، ومسامرة الزائرين في الكلام حول تاريخها، وجهودها، ودورها البارز في خدمة العلم واحتضان العلماء وطلابه فيها.

ومحبّة الشيخ للتأليف وتحقيق الكتب لم تقف عنده في مشاريعه الخاصة، فأشرك في اهتمامه إدارة الجامعة وأعضاءها ليستخرج في حينها تحقيقاتٍ أشرفت الجامعة على طبعها وبثّها بين طلاب العلم ومريديه.

وأسوق إليك طرفاً من حديث جرى في مجلسه العامر إذ قال الشيخ: “كان المقترح المقدّم للملك فيصل بأن يكون اسم الجامعة “جامعة الحرمين”، فأحال الملك فيصل – رحمه الله – المعاملة لسماحة الشيخ عبدالعزيز ابن بازٍ – رحمه الله – لإبداء رأيه، فكان رأي الشيخ ابن باز أن يكون اسمها “جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية” حاملةً لاسم المؤسس -رحمه الله-.

وعلى ذكر ابن باز – رحمه الله – قال الشيخ حفظه الله: “كان جامع الجامعة أكبر جامعٍ في مدينة الرياض حينها، وقد افتتحه الأمير سلطان، وكان أول من أمّ المصلين فيه سماحة الشيخ ابن باز رحم الله الجميع”.

بين العلم والإدارة حياةٌ خطّها الشيخ بهمة عالية، وآثار مباركة تنبئك عن جدِّ المسير وبركة النيّة الطيبة في أعمال الشيخ الوقور د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي حفظه الله ورعاه.

وإذا كانت النفوس كباراً              تعبت في مرادها الأجسامُ



الاثنين | 01 جمادى الآخر 1446

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.