مجالس العلماء قطعة من الجنة (1)
قال الحسن البصري:” الدنيا كلها مظلمة إلا مجالس العلماء” (2)
(1)
لا تنقضي العجائب من لقاءات المرء بالعلماء، ففيوضات الرحمة المتنزّلة من لدُن العزيز الوهاب ساحرة حاضرة في مجالسهم ولقاءاتهم، والسرور والأنس بالحديث معهم لذّة لا تقوم معها لذّة، فكم في صدور الرجال من شوارد مؤتلفة، وفرائد مستعذبة، عزَّ نظيرها، لا تحيط بها الدواوين، ولا تبلغها الكتب، إنها فُهُوم الفتوحات الربانية، وخلاصة الزمن، للمتعايش مع فنّه بجدٍ ونهم، ولا غروَ أن تجد هذا عند من أقبل بكليّته عليه، فمن انقطع إلى شيء أتقنه.
ثم إنّك تجد في مجالس أهل العلم أنساً وانشراحاً لا مثيل لهما ألبتة، وتغشى الزائر من المعاني الأُنسية العجيبة مالا خَبر له به من قبلُ إلا في مجالسهم ونوادي علمهم، فإذا تحدثّوا في العلم وتطارحوا المسائل، سمعت من ألفاظهم، وبيان تفسيرهم، وحلّ مشكلات العلم ما تتعجب منه، وما ينعكس عليك من أثرٍ في الفهم عميق جداٌ لمسائل ماكنت تكاد تفهم مبادئها، هي الآن تتجلى لك في أبهج صورة بيّنة واضحة وضوح العيان، فتنشط النفس، وتدبّ في العروق نشوة الفرح، طرباً لحلّ إشكال، أو بلاغ نكتةٍ لطيفة، كانت بفضل الله، ثم بدقّة فهمِ عالم جليل.
قال أبو عُبيد رحمه الله متحدّثاً عن حاله وكتابه “غريب الحديث”: “كنتُ في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنَةً، ورُبَّما كنت أستفيد الفائدةَ من أفواه الرِّجال، فأضَعها في موضِعِها من هذا الكتاب، فأبِيت ساهِرً، فرحاً منّي بتلك الفائدة” (3).
فانظر كيف أن من أَجَلِّ ما يبهجه، ويطيرُ النوم عينيه فائدةٌ من أفواه الرجال، لم تدّون في كتاب، أو تسطّر في صحيفة، يبيتُ ساهراً فرحاً بتلك الفائدة.
إنها معانٍ مستحدثة عجيبة، لا يسمو إليها الأمل، ولا يحيط بها الوصف، لا خبر لك بها إلا في هذه المجالس الطّيبة، أبهذه الحلاوة هيَ لأن العلم رباّني؟، ولكونها فيوضات الكريم العليم عز وجل؟ أم لأن هذه المجالس من مجالس الجنّة؟ أتُراها بهذا الجمال لكون العلم من ملذّات الجنة فنزل الآن، وطاب لك من رَوح الجنة ونعيمها نعيمٌ معجّل! ربما، ففضل الله واسع.
تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ” ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله…”
ألا تجد في تأملك لقوله صلى الله عليه وسلم، أثر اللّذة السماويّة بادٍ في الحديث، فهذه الملائكة قد تنزّلت من سمائها لتحفّ مجلس العلم، والسكينة نزلت على أهله، ومغفرة الغفور قد غشيتهم، ثم أكرمهم جل وعلا فذكرهم، فكان لهم من نعيم الجنّة المعجّل ما نزل عليهم في الدنيا، وليس ذاك إلا لمجلس العلم.
وهذا الاتصال بين مجلس العلم ولذّة الجنّة قد عرض لبعض العلماء ممن عرفوا هذه اللّذة، فلم يجرِ في خيالهم مما يشابه هذه اللّذة إلا أن تكون مشبّهةً بلذّة جنّة الله لعباده، وكان أبو الفرج ابن الجوري رحمه الله يقول واصفاً حاله في مجلس العلم:
الله أَسأَل أّن يُطَوِّلَ مُدَّتي *** وَأَنالَ بِالإِنعَامِ مَا فِي نِيّتِي
لِي هِمَّةٌ فِي العِلمِ مَا مِن مِثلِهَا *** وَهِيَ الَّتِي جَنَتِ النُّحُولَ هِيَ الَّتِي
كَم كَانَ لِي مِن مَجلِسٍ لَو شُبِّهَت *** أَجْوَاْؤُهُ لَتَشَبَّهَت بِالجَنَّةِ (4)
وانظر كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمّى هذا المجالس برياض الجنّة فقال: “إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا”، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: “مجالس العلم” (5).
بأبي وأمي سيد العلماء في الأولين والآخرين، ما أبلغ وصفه يوم سماها “رياض الجنّة”، إن هذا لهو الفضل الكبير.
ما أطيب العيش في كنف العلم، والتحلّق في حلق أهله، ومزاورتهم في الله، ومن سعى للعلم فبذل في سبيله كل غالٍ ونفيسٍ من مالٍ، وتركِ راحةٍ، وركوبٍ للصعب في مبتغى طلبه والسعي إليه، نال لذّة المطلوب إن صبرَ، ووافاه من عاجل بشرى مسيره علوٌ في همته يجاوز به مفازة الطريق.
ومن لطيف التفسير دلالةً على هذا المعنى، ما ذكره البقاعي عن الجن واستراقهم السمعَ لطلب العلم الغائب عنهم، فقال: “فَعَلَتْ هممهم حتى طلبوا المهمات الدنيوية والشهوات النفسانية من مسيرة خمسمائة سنة صعوداً، فأفٍّ لمن يكسل عن مهمات الدين المحققة من مسيرة ساعة أو دونها، وأن يقعد في مجلس العلم ساعة أو دونها”(6).
وهذه الجنة التي فيها مجتمع اللذائذ كلها، كان نصيب العلماء منها وافراً، فهم لا يزالون في الجنّة يشتغلون بلذّة العلم فيما بينهم، وأي لذّةٍ للعقول ألذّ من لذّة العلم بالله، والعلم بشريعته عز وجل؟ لذّة ليست إلا لأهل العلم، وما كان هذا ليفوت على الهمام الإمام ابن القيم رحمه الله يومَ ذكر أُنسَ أهل الجنّة وتزاورهم لبعضهم فقال: “وإذا تذاكروا ما كان بينهم، فتذاكُرُهُم فيما كان يُشكِلُ عليهم في الدنيا من مسائل العلم، وفهم القرآن والسنة، وصِحَّة الأحاديث= أولى وأحرى، فإن المذاكرة في الدنيا في ذلك ألذُّ من الطعام والشراب والجماع، فتذاكُر ذلك في الجنَّة أعظم لذَّة، وهذه لذَّة يختص بها أهل العلم، ويتميزون بها على من عداهم. والله المستعان”(7)، هذا والله مجلسُ السعد والأنس، فاللهم أكرمنا به.
“هي الطريق”
(2)
اتصلت عليه وقلت: طالب علم قادمٌ إلى بلدكم للقائكم، فهل تأذن بشيء من وقتك لي؟ فهَلاَّ ومرحَبَ، وما إن رآني حتى أخذني بالأحضان، يعانقني ويقول: نهارٌ كبيرٌ أن أرى طالب علم عندي.
في بلدة هانئة وادعة، وفي عمارة سكنيّة من ثمان طوابق جميلة مشرفةٍ على المدينة من كل نواحيها، سهولُ المدينة من الجهة الجنوبية، وفي شرقها البحر والخليج الصغير، استضافني شيخنا فرحاً مسروراً، تقاطع البسمة كلماته.
فرحٌ كبيرٌ بطالب محبٍ زائر في الله، ثم في رحم العلم، وما زال شيخنا يمطرني بوابل من الأدعية والترحيب ونحن نعرُجُ في مصعد عمارته إلى الطابق الثامن، حتى أدخلني بيته العامر.
مجلسٌ فسيح، على يمينك جلسة بطرفين، وأمامها طاولة صغيرة تراكمت عليها الكتب وجهاز الشيخ، ويسارك أيضاً مجلس آخرُ مختصرٌ جميل، وبينهما وفي مقدّمة مجلس شيخنا محرابٌ الصلاة، قد حفّ به عامودان على هيئة ساريتين، وسترةُ محرابه حامل المصحف، فوقه القرآن الكريم، ونافذتان عن يمينك وشمالك، وسجادة الصلاة مبسوطة في محراب الشيخ، وسكينة في المكان لا يقطعها إلا ترحاب مضيفنا المفضال، ما أجمل هذه الحياة، وما أجَلّ هذا النظر.
أخذنا في الحديث العذب عن بين الفقه والأصول والمقاصد، ومدارسة لمفاهيم الهدى والتقوى والرحمة في القرآن الكريم، ومشاريع شيخنا فيها، ثم رددنا الحديث ثانيةً على الفقه وأصوله، فأفاض علينا بشأن ما سماه “حماية الفقه بالمقاصد الشرعية”، وكيف أن العمق المعرفي بالمقاصد أداةٌ من أدوات الفقيه لفهم الأحكام وبنائها وتنزيلها على الوقائع، وأن العمق المعرفي والعلمي والواقعي جزء أساس في استيعاب المقاصد الشرعية، ومعيار صحيح للتطبيق والتنزيل الصحيح، وأثر هذا يظهر بجلاء حين ينشط في بلدٍ دون آخر استيعابُ هذه المفاهيم الكبيرة، تبعاً للأساس العلمي، والمران الفكري والتطبيقي في هذه المدرسة عن تلك، ولأثر التجارب المتراكمة في ناحية دون ناحية هي أقلُّ تجربة مع المحيط بها، وهذا وذاك سببٌ مؤثر في إدراك أهميّة غور علم الأصول، واستحضار المقاصد، ودورها في خدمة الفقيه لبناء الأحكام والتعامل مع الواقع، وحماية الفقه.
زاد شيخي إيضاحاً فقال: أرأيت مسألة كذا وكذا، كنتُ ممن يقول لبعض العلماء في مدارسات خاصة: قيّدوا الحكم بالأصول والمقاصد الشرعية، افهموا المسألة على ضوئها وحالها وزمانها، ثم ابنوا حكمكم عليها من خلال هذا الفهم الدقيق، وبهذه الأداة القويّة للفقيه، قولوا باعتبار الضرورة، وأنها تقدّر بقدرها، وتضبط بضوابطها، ثم ضعوا القيود من حيث السن، والزمان والمكان، والحَضَر والسفر…، قبل أن يأتي اليوم الذي يُجترأُ فيه على الفقه وأهله فلا تعتبر مصالحٌ ولا تدرأ مفاسد، فتحلُّ العُرى، وتقطع العلائق، وتضيع عليكم الدائرة … ولعل هذا قد حدث!.
ثم ذهب بنا الحديث إلى مقارنةٍ لرأي الشيخ فيما سمعه وما رآه في تجربة تدريسه في بلدانٍ متعددة، كيف رأى ذلك؟
فقال أنا أحدّثك بحديث ظريف في هذا الشأن، فإني درَّستُ في المدينة الفلانية، وسُمعةُ أهلها من جهة الاحتياط في المسائل، والأخذ بالأشد كما تعلم، فرأيت موقفاً هزّ هذه القناعة شيئاً ما، وذلك حين كنت في أول صلاة جماعة لي فور وصولي لتلك المدينة، وأثناء انتظارنا لإقامة صلاة العصر، خرج علينا من مقصورة الإمام شابٌ يرتدي البدلة والقبّعة، وصلى بنا دون أي معارضٍ من الحاضرين، فعلمت أن الأمر تغيّر عمّا بلغني، ورسمته في مخيلتي.
طال بنا الحديث جداً، وقبل أن أنهي مجلسي مع شيخي قلت له مستخرجاً سرَّ ما رأيت:
– شيخي، هذا المجلس الأيمن والمجلس الأيسر، وبينهما محرابُ الصلاة، فما القصّة المحراب في هذا المكان؟
تبسّم الشيخ ابتسامةً أجابت عن كل شي، قال بقلبِ قد غشيته السكينة:
– نعم، هذه هي الطريق، الصلاة هي الطريق، فأنا أبتدئ مجلسي على أوراقي وبحوثي بالصلاة، ثم أسلوا عن نفسي حتى يأخذ مني التعب ما يأخذ، فأجدد نشاطي بالصلاة، وأحياناً يمضي عليّ الليل وأنا بين هذه الأوراق والمطالعات، وسلطان النوم يغالب الأجفان، فأستعين عليه بركعتين، وصلاة الليل، يا بني، إن الصلاة هي الطريق!.
ودّعت شيخي وعبارته مازالت ترنُّ في أذني: ” إن الصلاة هي الطريق “، ما أعمق ما قال! ولو لم يكن من هذه الرحلة إلا هذا الجزء الروحاني التطبيقي الذي رأيته رأي عيانٍ، وتنشَّقتُ رحيق لذّته بالصلاة، وقوله “هي الطريق”، لكان وحده منسياً لعناء السفر ومشقته.
هي الطريق على العلم، والفتوحات، والتجليات المباركة، وهي الطريق في الحياة للتوفيق والسداد.
واهاً لمن جمع بين العلم والعمل، فيرى بنور الله، ويعمل بهداياته، فالصلاة هي الطريق، والعلم سناه.
(إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فَاطِر : 28
***
(1) هذه المقالة مقدمة لسلسلة مقالات لاحقة -بإذن الله-، أحكي فيها شيئاً من مجالستي لأهل العلم والفضل.
(2) [جامع بيان العلم وفضله 1/236]
(3) [طبقات الحنابلة 1/261].
(4) [سير أعلام النبلاء 21/379]
(5) رواه أحمد والترمذي.
(6) [نظم الدرر 20/476].
(7) (حادي الأرواح 2/820).
كلمة رائعة تقود الواحد منا أن يعيش وأن يتدارك هذا النعيم قبل فواته.
وأجمل ما فيها كذلك التسلسل في الكتابة بلغية جاذبة ومشوقة.