مفهوم المسؤولية والقصد الجنائي في الفقه والقانون
نظرة عامة:
في عام عام 1266م مَثَلت أمام المحكمة الفرنسية خنزيرةٌ وصغارها لمواجهة تهمة قتل طفلٍ صغير، وبعد مداولة بين القضاة أصدت المحكمة حكمها بالإعدام للخنزيرة الأم والإفراج عن صغارها إذ برءوا من التهمة المنسوبة إليهم!.
وكذا كانت بعض المحاكم الأوربية تحاكم حيوانات ارتكبت جناية إما على إنسان أو على حيوان أو جماد، وأعجب من ذلك أن تلك المحاكم قد حاكمت الجمادات أيضاً، وكأن للحيوانات والجمادات عقل وقصد وإدراك صحيح تؤاخذ عليه![1]، ولا شك أن هذا من المضحكات، فانظر لأي مستوىً كان النظر القضائي متخلفاً لدى محاكم أوروبا، وقارنه بانتفاء هذه الحادثة في تاريخ الفقه الإسلامي ولا لمرّة واحدة، بل ولا يرد على العقل، فالشريعة المكمّلة نور نبراس هدى لا يهتدي الناس فيها إلا للحق والعدل.
وقد كان الفقه الإسلامي هو الأساس الأول للقانون المدني الفرنسي الصادر عام 1804 – وهو أصل القوانين في العصر الحديث-، وهو المؤسس للشخصية الذاتية والشخصية المعنوية، ومعاقد الالتزام وآثاره وغيره من أبواب الفقه والقانون[2]، وبيان انعقاد المسؤوليات في أفعال وإرادات المكلفين.
مفهوم المسؤولية الجنائية واشتراط القصد الجنائي:
“إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن“، كلمة يشع منها نور النبوّة، وتحمل معاني مقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، فلا تعجب من اجتماع هذه المعاني العظيمة في نصف سطر، فقد خرجت من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ولا عقوبة إلا بنصٍ، وبوجود شروط وانتفاء موانع توجب مجازات المعتدي بتعديه وجرمه، وكما أن الأمور بمقاصدها في استحقاق الثواب، فهي كذلك بمقاصدها في لزوم العقاب، فاعتبار النيّة للأعمال الصادرة من المكلّف مؤثر في إسقاط الحكم على الواقعة المنظورة، ومن هذا الباب دخلت قاعدة “الأمور بمقاصدها” في كافة أفعال المكلفين.
والقصد: الإرادة والتعمّد والاتجاه، فمن أراد شيئاً وتعمّده فهو قاصدٌ له، وهو صادر عن النيّة، وهي خفيّة، ويحكم في الحقوق بظاهر حال أفعال المكلفين على مراداتها ومقاصدها، فيخرج ما حصل من أفعال المكلفين بالخطأ والنسيان من جهة التأثيم والتجريم، وتبقى جهة الضمان والمسؤولية.
ولأن الحكم لا يبنى إلا على قصد صحيح، ونيّة مرادة، كان ترتب الأحكام في الجزاء عليها مبنياً على هذا الأصل الأصيل في اعتبار الفعل من عدمه، ولذلك جعل أهل العلم من شروط تحقق الجنايات العمدُ، وهو الإرادة للفعل، فمن تعمّد قتل مسلم حلال الدم دون وجه حقٍ أُخذ بجريمته، وقد قال الله تعالى: ” ومن يقتل مؤمناً متعمّداً”، أما من فعل خطأً ما تسبب بهلاك معصوم الدم فلا يؤاخذ بجنايته مأخذ العقاب وإن كانت النتيجة في الحالين واحدة وهي زهوق النفس المعصومة، وفقد اختلفت النيّة في الفعلين فاختلف الحكم فيهما، وقد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وهو محل اجماع بين أهل العلم، قال ابن حزم: “لا ذنب لقاتل النفس خطأ بلا خلاف”[3].
ولذا لا تخلوا أبواب الجنايات والحدود والقصاص في كتب الفقه الإسلامي من تصدير شروط مسائلها بشرط التعمّد والقصد للفعل والجناية على الشخص، وهو ظاهر في نصوصهم منها – في القتل مثلاً – : قول النووي: “إذا وجد القصدان – قصد الفعل والشخص- وعلمنا حصول الموت بفعله، فهو عمد محض، سواء قصد الإهلاك، أم لا”، وقول البهوتي: “(فالعمد) الذي يختص به القود (أن يقصد) الجاني (من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما) أي بشيء (يغلب على الظن موته به) محدودا ًكان أو غيره، فلا قصاص إن لم يقصد القتل أو قصده بما لا يقتل غالبا”[4]، وكقولهم في موجبات إيقاع الحدود: ” يشترط لوجوب الحد كون الفاعل مختاراً مكلفاً” فانظر كيف اعتبروا القصد والاختيار للفعل في إيقاع الحكم على الجاني، فبدونهما تنتفي العقوبة بلا خلاف.
ولا يفوت أن من شروط صحّة القصد وصحّة النيّة من المصدر للفعل، بأن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً، فالصغير والمجنون ليس لهم إرادة صحيحة، فلا يصح اعتبار قصدهم قصداً منتجاً للفعل، وعمد الصغير والمجنون كخطئهما، وغير المختار كالمخطئ والمكره إكراهاً ملجئاً فهو كالآلة.
والقصد الجنائي ركن أساسٌ في الجريمة لدى فقهاء القانون المعاصرين، فالجريمة لا تتم إلا بثلاثة أركان هي: الركن المعنوي وهو المتمثّل في القصد لإيقاع الفعل، والركن المادّي وهو الفعل المجرَّم نفسه المتمثل بالبدء والتنفيذ، والركن الشرعي وهو النصُّ الشرعي أو النظامي بتجريم الفعل.
ولا يكاد يخلو قانون أو نظام يتعلّق بعقوبة معيّنة إلا ويبيّن فيه المشرِّعُ اعتبار قصد الجاني في جنايته، وترى هذا مبثوثٌ في الأنظمة والقوانين المتخصصة بمكافحة جرائم معيّنة، أو تتعلّق بالعقوبات بشكل عامٍ، وكذا في ثنايا أبواب وفصول المخالفات والعقوبات للأنظمة والقوانين على اختلاف أنواعها.
ومن ذلك: ماجاء المادة (1) من نظام نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في تعريف غسيل الأموال: “غسل الأموال : أي فعل مقترف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ( بوساطة ) بغية اكتساب أموال أو حقوق أو ممتلكات نتيجة ارتكاب أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام، أو نقلها، أو إخفاء أو تمويه حقيقتها أو مصدرها أو مكانها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها أو ملكيتها، أو المساهمة بصورة أصلية أو تبيعه في هذه الأعمال بهدف إخفاء المصدر غير المشروع للأموال أو تمويهه أو بقصد مساعدة أي شخص له علاقة بهذه الجرائم لتمكينه من غسل الأموال والإفلات من العقاب.“، وقد كرر المشرّع الاشارة إلى اعتبار القصد في المواد (3,8،35,37,3839,41) من ذات النظام.
وكذلك ما ورد في المادة 261 من نظام الشركات ونصها: “دون إخلال بأي عقوبة ينص عليها نظام آخر، يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على (سنة) وبغرامة لا تزيد على (1.000.000) مليون ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين: … ط- كل مدير أو مسؤول أو عضو مجلس إدارة أو مراجع حسابات أو مصفّ، استغل أو أفشى سرًّا من أسرار الشركة بقصد الإضرار بها.“
فقصد الإضرار هو مناط الحكم على الجاني بجنايته، ومجازاته بالقعوبة على فعلته، فيستحق بموجب قصده ذلك السجن أو الغرامة أو هما معاً بحسب ما تراه المحكمة.
وما جاء في المادة (1) من نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله التي عرفت الجرئمة الارهابية واعتبار قصد الجانبي فيها، ونصها: “3- الجريمة الإرهابية: كل سلوك يقوم به الجاني تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي بشكل مباشر أو غير مباشر، يقصد به الإخلال بالنظام العام، أو زعزعة أمن المجتمع واستقرار الدولة أو تعريض وحدتها الوطنية للخطر…” إلخ.
ومثل ذلك أيضاً ماورد في الفقرة (2) من المادة (4) نظام مكافحة غسل الأموال ونصّها: “2- يُتحقق من القصد أو العلم أو الغرض في ارتكاب جريمة غسل الأموال من خلال الظروف والملابسات الموضوعية والواقعية للقضية. “، إلى غير ذلك من الأنظمة والقوانين المختلفة التي تنصّ صراحة على اعتبار قصد الجاني للأخذ بجنايته.
فالركن المعنوي المتحقق بالقصد الجنائي أساس وركن لا تقوم المسؤولية الجنائية إلا بوجوده، ويجب أن يثبت بيقين، إذ الأصل السلامة وانتفاء التهمة، ولا يتحقق القصد الجنائي إلا بالعلم والإرادة، فالعلم اليقيني بنتيجة الفعل الإجرامي، والإرادة التامة لتحقيق هذه النتيجة أو القبول بها مناط تحمل مسؤولية الفعل الجنائي وتحقق قصده.
وأما البناء للحكم على المتهم بالمسؤولية الجنائية فيجب أن يكون على أساس تحقق القصد الجنائي أولاً، فإن كان ثَمَّ نُظِر في بقيّة أركان الجريمة، فإن توفّرت فقد لزمته العقوبة، وإن انتفت، أو كانت دون ركن القصد الجنائي فلا جريمة حينئذٍ ولا عقوبة.
فالركن المعنوي المتمثّل بالقصد الجنائي هو الأصل النفسي للركن المادي المباشر للنتيجة والفعل، والنيّة مطيّة الفعل، ومن تعمّد الجريمة أُخذ بها.
16/جمادى الأولى/1446هــ
[1] للاستزادة راجع كتاب ” The Criminal Prosecution And Capital Punishment Of Animals ” للكاتب الأمريكي Edward Payson Evans.
[2] انظر البحث المحكم المنشور في مجلة البحوث والدراسات الإسلامية المحكمة..العدد (٦٧) بعنوان: الفقه المالكي وأثره على القانون الفرنسي، للدكتور ناصر بن محمد بن مشري الغامدي.
[3] المحلى (9/ 11).
[4] شرح منتهى الإرادات 3/254.